الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أي لحم منيع، وأنه ليس من أهلك، أي من أهلك الناجين، لأنه معلوم أن كلًا منهم على شيء، أو يكون ذلك نفيًا على سبيل المبالغة العظيمة، إذ جعل ما هما عليه، وإن كان شيئًا كلا شيء.هذا والشيء يطلق عند بعضهم على المعدوم والمستحيل، فإذا نفى إطلاق اسم الشيء على ما هم عليه، كان ذلك مبالغة في عدم الاعتداد به، وصار كقولهم أقل من لا شيء.{وهم يتلون الكتاب}: جملة حالية، أي وهم عالمون بما في كتبهم، تالون له.وهذا نعي عليهم في مقالتهم تلك، إذ الكتاب ناطق بخلاف ما يقولونه، شاهدة توراتهم ببشارة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وصحة نبوّتهما.وإنجيلهم شاهد بصحة نبوة موسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، إذ كتب الله يصدق بعضها بعضًا.وفي هذا تنبيه لأمّة محمد صلى الله عليه وسلم في أن من كان عالمًا بالقرآن، يكون واقفًا عنده، عاملًا بما فيه، قائلًا بما تضمنه، لا أن يخالف قوله ما هو شاهد على مخالفته منه، فيكون في ذلك كاليهود والنصارى.والكتاب هنا قيل: هو التوراة والإنجيل.وقيل: التوراة، لأن النصارى تمتثلها.{كذلك قال الذين لا يعلمون مثل قولهم}: الذين لا يعلمون: هم مشركو العرب في قول الجمهور.وقيل: مشركو قريش.وقال عطاء: هم أمم كانوا قبل اليهود والنصارى.وقال قوم: المراد اليهود، وكأنه أعيد قولهم: أي قال اليهود مثل قول النصارى، ونفى عنهم العلم حيث لم ينتفعوا به فجعلوا لا يعلمون.والظاهر القول الأول.وقال الزمخشري: أي مثل ذلك الذي سمعت على ذلك المنهاج.قال: الجهلة الذين لا علم عندهم ولا كتاب، كعبدة الأصنام، والمعطلة ونحوهم قالوا: لكل أهل دين ليسوا على شيء، وهو توبيخ عظيم لهم، حيث نظموا أنفسهم مع علمهم في سلك من لا يعلم.والظاهر أن الكاف من كذلك في محل نصب، إما على أنها نعت لمصدر محذوف تقديره: قولًا مثل ذلك القول، {قال الذين لا يعلمون}، أو على أنه منصوب على الحال من المصدر المعرفة المضمر الدال عليه قال، التقدير: مثل ذلك القول قاله، أي قال القول الذين لا يعلمون، وهذا على رأي سيبويه.وعلى الوجهين تنتصب الكاف بقال، وانتصب على هذين التقديرين مثل قولهم على البدل من موضع الكاف.وقيل: ينتصب مثل قولهم على أنه مفعول بيعلمون، أي الذين لا يعلمون مثل مقالة اليهود والنصارى، قالوا: مثل: مقالتهم، أي توافق الذين لا يعلمون مقالات النصارى، واليهود مع اليهود والنصارى في ذلك، أن من جهل قول اليهود والنصارى وافقهم في مثل ذلك القول.وجوّزوا أن تكون الكاف في موضع رفع بالابتداء، والجملة بعده خبر، والعائد محذوف تقديره: مثل ذلك قاله الذين.ولا يجوز لقال أن ينصب مثل قولهم نصب المفعول، لأن قال قد أخذ مفعوله، وهو الضمير المحذوف العائد على المبتدأ، فينتصب إذ ذاك مثل قولهم على أنه صفة لمصدر محذوف، أو على أنه مفعول ليعلمون، أي مثل قولهم يعني اليهود والنصارى.قال الذين لا يعلمون اعتقاد اليهود والنصارى.انتهى ما قالوه في هذا الوجه، وهو ضعيف لاستعمال الكاف اسمًا، وذلك عندنا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر، مع أنه قد تؤوّل ما ورد من ذلك وأجاز ذلك، أعني أن تكون اسمًا في الكلام، ويحذف الضمير العائد على المبتدأ المنصوب بالفعل، الذي لو قدر خلوه من ذلك الضمير لتسلط على الظاهر قبله فنصبه، وذلك نحو: زيد ضربته.نص أصحابنا على أن هذا الضمير لا يجوز حذفه إلا في الشعر، وأنشدوا: أي: يحمده ساداتنا.وعن بعض الكوفيين في جواز حذف نحو: هذا الضمير تفصيل مذكور في النحو.{فالله يحكم بينهم يوم القيامة فيما كانوا في يختلفون}: أي يفصل، والفصل: الحكم، أو يريهم من يدخل الجنة عيانًا، ومن يدخل النار عيانًا، قاله الزجاج، أو يكذبهم جميعًا ويدخلهم النار، أو يثيب من كان على حق، ويعذب من كان على باطل.وكلها أقوال متقاربة.والظرفان والجار الأول معمولان ليحكم، وفيه متعلق بيختلفون. اهـ.
وقيل: عليه وعلى ما قبله أن استعمال الكاف اسمًا وإن جوزه الأخفش إلا أن جماعة خصوه بضرورة الشعر مع أنه قد يؤل ما ورد منه فيه على أنه لا يخفى ما في توجيه التشبيهين دفعًا لتوهم اللغوية من التكلف والخروج عن الظاهر، ولعل الأولى أن يجعل {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} إعادة لقوله تعالى: {كذلك} للتأكيد والتقرير كما في قوله تعالى: {جَزؤُهُ مَن وُجِدَ في رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ} [يوسف: 5 7] وبه قال بعض المحققين، وقد يقال: إن كذلك ليست للتشبيه هنا بل لإفادة أن هذا الأمر عظيم مقرر، وقد نقل الوزير عاصم بن أيوب في شرح قول زهير: عن الإمام الجرجاني إن {كذلك} تأتي للتثبيت إما لخبر مقدم وإما لخبر متأخر وهي نقيض كلا لأن كلا تنفي وكذلك تثبت ومثله {كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ في قُلُوبِ المجرمين} [الحجر: 2 1] وفي شرح المفتاح الشريفي إنه ليس المقصود من التشبيهات هي المعاني الوضعية فقط إذ تشبيهات البلغاء قلما تخلو من مجازات وكنايات فنقول: إنا رأيناهم يستعملون كذا وكذا للاستمرار تارة نحو عدل زيد في قضية فلان كذا وهكذا أي عدل مستمر، وقال الحماسي: نص عليه التبريزي في شرح الحماسة وله شواهد كثيرة، وقال في شرح قول أبي تمام: إنه للتهويل والتعظيم وهو في صدر القصيدة لم يسبق ما يشبه به، وسيأتي لذلك تتمة إن شاء الله تعالى، وإنما جعل قول أولئك مشبهًا به لأنه أقبح إذ الباطل من العالم أقبح منه من الجاهل، وبعضهم يجعل التشبيه على حد {إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا} [البقرة: 275] وفيه من المبالغة والتوبيخ على التشبه بالجهال ما لا يخفى وإنما وبخوا، وقد صدقوا إذ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء لأنهم لم يقصدوا ذلك وإما قصد كل فريق إبطال دين الآخر من أصله والكفر بنبيه وكتابه على أنه لا يصح الحكم بأن كلا الدينين بعد النسخ ليس بشيء يعتدّ به لأن المتبادر منه أن لا يكون كذلك في حد ذاته وما لا ينسخ منهما حق واجب القبول والعمل فيكون شيئًا معتدًا به في حد ذاته وإن يكن شيئًا بالنسبة إليهم لأنه لا انتفاع بما لم ينسخ مع الكفر بالناسخ.{فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} أي بين اليهود والنصارى لا بين الطوائف الثلاثة لأن مساق النظم لبيان حال تينك الطائفتين والتعرض لمقالة غيرهم لإظهار كمال بطلان مقالهم والحكم الفصل والقضاء وهو يستدعي جارين فيقال: حكم القاضي في هذه الحادثة بكذا، وقد حذف هنا أحدهما اختصارًا وتفخيمًا لشأنه أي بما يقسم لكل فريق ما يليق به من العذاب، والمتبادر من الحكم بين فريقين أن يحكم لأحدهما بحق دون الآخر فكأن استعماله بما ذكر مجاز، وقال الحسن: المراد بالحكم بين هذين الفريقين تكذيبهم وإدخالهم النار وفي ذلك تشريك في حكم واحد وهو بعيد عن حقيقة الحكم، و{يَوْمٍ} متعلق ب {يُحْكِمُ} وكذا ما بعده ولا ضير لاختلاف المعنى، وفيه متعلق ب {يَخْتَلِفُونَ} لا ب {كَانُواْ} وقدم عليه للمحافظة على رءوس الآي.ومن باب الإشارة في الآيات: {مَا نَنسَخْ مِنْ ءايَةٍ} [البقرة: 106] أي ما نزيل من صفاتك شيئًا عن ديوان قلبك أو نخفيه بإشراق أنوارنا عليه إلا ونرقم فيه من صفاتنا التي لا تظن قابليتك لما يشاركها في الاسم والتي تظن وجود ما لا يشاركها فيك {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ} [البقرة: 107] عالم الأرواح وأرض الأجساد وهو المتصرف فيهما بيد قدرته بل العوالم على اختلافها ظاهر شئون ذاته ومظهر أسمائه وصفاته فلم يبق شيء غيره ينصركم ويليكم {أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْئَلُواْ} رسول العقل من اللذات الدنية والشهوات الدنيوية {كَمَا سُئِلَ موسى} القلب {مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ} [البقرة: 108] الظلمة بالنور فقد ضل الطريق المستقيم وقالت اليهود لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الظاهر وعالم الملك التي هي جنة الأفعال وجنة النفس {إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا} وقالت النصارى لن يدخل الجنة المعهودة عندهم وهي جنة الباطن وعالم الملكوت التي هي جنة الصفات وجنة القلب إلا من كان نصرانيًا، ولهذا قال عيسى عليه السلام: لن يلج ملكوت السموات من لم يولد مرتين {تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ} أي غاية مطالبهم التي وقفوا على حدها واحتجبوا بها عما فوقها {قُلْ هَاتُواْ} دليلكم الدال على نفي دخول غيركم {إِن كُنتُمْ صادقين} [البقرة: 111] في دعواكم بل الدليل دل على نقيض مدعاكم فإن {مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ} وخلص ذاته من جميع لوازمها وعوارضها لله تعالى بالتوحيد الذاتي عند المحو الكلي وهو مستقيم في أحواله بالبقاء بعد الفناء مشاهد ربه في أعماله راجع من الشهود الذاتي إلى مقام الإحسان الصفاتي الذي هو المشاهدة للوجود الحقاني {فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبّهِ} [البقرة: 2 11] أي ما ذكرتم من الجنة وأصفى لاختصاصه بمقام العندية التي حجبتم عنها ولهم زيادة على ذلك هي عدم خوفهم من احتجاب الذات وعدم حزنهم على ما فاتهم من جنة الأفعال والصفات التي حجبتم بالوقوف عندها {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَئ} لاحتجابهم بالباطن عن الظاهر {وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَئ} لاحتجابهم عن الباطن بالظاهر {وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} وفيه ما يرشدهم إلى رفع الحجاب ورؤية حقية كل مذهب في مرتبته {كذلك قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ} المراتب {مِّثْلَ قَوْلِهِمْ} فخطأ كل فرقة منهم الفرقة الأخرى ولم يميزوا بين الإرادة الكونية والإرادة الشرعية ولم يعرفوا وجه الحق في كل مرتبة من مراتب الوجود {فالله} تعالى الجامع لجميع الصفات على اختلاف مراتبها وتفاوت درجاتها {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} بالحق في اختلافاتهم {يَوْمٍ} قيام {القيامة} [البقرة: 3 11] الكبرى وظهور الوحدة الذاتية وتجلي الرب بصور المعتقدات حتى ينكرونه فلا يسجد له إلا من لم يقيده سبحانه حتى بقيد الإطلاق. اهـ.
|